
يُعدّ فيلم «طيّارة من ورق» للمخرجة اللبنانية رندة الشهّال صبّاغ من الأعمال السينمائية العربية التي تناولت مسألتي الهوية والحدود من منظور إنساني يتجاوز الخطاب السياسي المباشر، عبر مقاربة شاعرية تضع الجسد والحرية في قلب السرد
يروي الفيلم قصة لمياء، فتاة لبنانية ذات الخمسة عشرة سنة تعيش في قرية حدودية جنوب لبنان، تزوج قسريا، لتتحوّل رحلتها إلى تجربة وجودية تصطدم فيها الذات بجدار الاحتلال والقيود الاجتماعية، ليصبح المشاهد بدوره في رحلة مشهدية بين الهوية والحدود كتيمة والموسيقى والصوت كأسلوب يكون حضور زياد الرحباني فيهما فاعلا بوصفه فنانًا ملتزمًا يتقاطع مشروعه الفكري مع قضايا الفيلم
الهوية والحدود: من الجغرافيا الى التجربة الوجودية
يطرح فيلم «طيّارة من ورق» مسألة الهوية من خلال شخصية لمياء بوصفها هوية قيد التشكل، لم تُمنح بعد حق تعريف ذاتها. تُقدَّم لمياء كشخصية تُسلب منها القدرة على الاختيار، حيث تُفرض عليها قرارات تتعلّق بمستقبلها وجسدها دون مشاركتها، ما يجعل هويتها الفردية خاضعة لإرادة العائلة والمحيط الاجتماعي. لا يُنظر إلى الشخصية كذات مستقلة، بل كجزء من نظام اجتماعي يحدّد أدوارها سلفًا، خاصة فيما يتعلّق بالأنوثة والزواج
يبرز الفيلم الهوية هنا كحالة هشّة، تتكوّن تحت الضغط، حيث يُختزل الوجود الإنساني في وظيفة اجتماعية أكثر منه تعبيرًا عن ذات واعية. ومن خلال صمت لمياء ونظراتها، يكشف الفيلم عن فجوة بين ما تعيشه الشخصية وما تشعر به، لتصبح الهوية مسكوتًا عنها أكثر مما هي معبَّر عنها. والطائرة الورقية هنا رمزا للطفولة المقموعة المتعطشة للحرية اذ تجد لمياء نفسها بين عالمين دون أن تنتمي الى أي منهما
.بهذا الطرح، يقدّم فيلم «طيّارة من ورق» الهوية كمسار معطَّل، لا كحقيقة مكتملة، ويكشف عن أثر الإكراه الاجتماعي في تشويه تشكّل الذات الفردي
أما الحدود في الفيلم فتتجاوز بعدها السياسي لتصبح عنصرًا سرديًا فاعلًا فهي حاضرة بصريًا عبر الأسلاك الشائكة، أبراج المراقبة وأعين الجنود، وحاضرة رمزيًا كقوة تُقيّد الحركة وتخنق الحلم.
في مقابل هذا الحصار، تبرز الطائرة الورقية كرمز للعبور والحرية، بوصفها الكائن الوحيد القادر على التحليق في فضاء يُمنع فيه الإنسان من الحركة اذ تتحوّل الطائرة إلى استعارة للذات الانسانية التي تحاول التنفّس رغم القمع، وإلى حلم يتجاوز الاحتلال والقيود المفروضة على الجسد والهوية
.لا يمكن فصل خطاب «طيّارة من ورق» حول الهوية والحدود عن اختياراته الفنية والفكرية، وفي مقدّمتها التعاون مع زياد الرحباني، المعروف بمشروعه النقدي والتزامه بقضايا الإنسان، والاحتلال، والهشاشة الاجتماعية
إن الحضور الرحباني في هذا السياق لا يُفهم بوصفه مشاركة تقنية فحسب، بل كاختيار دالّ لفنان ينتمي إلى خطاب يرى في الفن أداة مساءلة وموقفًا سياسيا. يتقاطع هذا الالتزام مع رؤية رندة الشهّال التي تُقدّم الحدود كشرخ وجودي يمسّ الكرامة الإنسانية قبل أن يكون واقعًا سياسيًا. وبهذا يصبح زياد الرحباني جزءًا من الهوية الفكرية للفيلم، ويُساهم في ترسيخ طابعه كعمل سينمائي ملتزم بقضايا الحرية والعدالة
الموسيقى والصوت من الشاعرية الى الخطاب السياسي
تأتي موسيقى زياد الرحباني في هذا المحور كجسر وجداني بين الداخل والخارج، بين ما يُرى وما يُكبت فأسلوبه القائم على الجمل الموسيقية القصيرة والمكسورة يعكس هشاشة الهوية اللبنانية الممزقة بقرية دير ميماس، ويترجم مأزق الشخصيات أمام واقع لا يرحم. بهذا المعنى، لا تكتفي موسيقى زياد الرحباني بمرافقة الصورة، بل تُعيد صياغة تجربة العبور بوصفها تجربة نفسية ووجودية، تجعل من الحدود إحساسًا دائمًا بالاختناق أكثر من كونها موقعًا جغرافيًا
وتأتي الموسيقى كعنصر سردي داخلي اذ اعتمدت رندة الشهّال على الموسيقى بوصفها سردًا محملا بالمعنى، حيث تحلّ النغمة محلّ الحوار، خصوصًا مع شخصية لمياء الصامتة فكلما ضاق الفضاء البصري، اتّسع الفضاء السمعي، لتصبح الموسيقى صوت اللاوعي الدرامي للشخصيات
كما يساهم الصوت في بناء الزمن النفسي في مقابل الزمن الخارجي فهو زمن جامد عقيم تحكمه الجغرافيا والانتظار فتُنشئ الموسيقى زمنًا داخليًا نابضًا بالحلم إنه زمن مقاوم، يتسلّل عبر الصمت، ويمنح الشخصية وهم القدرة على الحركة داخل عالم ساكن
يلعب الصمت هنا دورًا أساسيًا أيضًا، إذ يتحوّل إلى مساحة توتّر، تكسرها أنفاس البيانو أو النغمات الخافتة، في علاقة دقيقة بين الصوت والفراغ
تمثل الموسيقى في هذا الفيلم فعل مقاومة حيث تنسجم الموسيقى الرحبانية مع الرؤية البصرية لرندة الشهّال، اذ يلتقي الأسلوب الواقعي بالشاعرية، لتتحوّل اللغة الميلانكولية واللغة الساخرة إلى لغة مشتركة: تنكسر الصورة عبر الأسلاك والحدود، والصوت ينكسّر عبر جُمل موسيقية موجعة، ليخلقا معًا تجربة شعورية تتجاوز الحكاية
لا تزيّن الموسيقى المشهد في «طيّارة من ورق»، بل تكشف عن عنف مكبوت، وتُحوّل الصمت الحدودي إلى صرخة بلا كلمات، ما يجعلها أداة مقاومة نفسية ضد الاحتلال وضد خنق الهوية
إلى جانب تأليفه الموسيقي، يشارك زياد الرحباني في الفيلم كممثّل، في حضور نادر يعكس رغبته في اختبار اللغة السينمائية من الداخل. لا يبدو ظهوره عابرًا، بل يحمل بصمته الواقعية ونبرته الإنسانية، وكأنّه يوقّع العمل صوتًا وصورة. بهذا يصبح الفيلم جزءًا من سجل زياد الرحباني السينمائي رغم قِلة عدد الأعمال
كبيان تجريبي: يمكن للسينما أن تحتضن الموسيقى ليس كزينة، بل كفكر، كذاكرة، كرفض
